بقلم : عريب الرنتاوي
ستنتهي الأزمة السورية إلى تغيير جوهري في “طبيعة” نظامين سياسيين في المنطقة، من دون أن تسقط أيٍ منهما ... تركيا تنتقل بخطوات ثابتة من نظام برلماني وصلاحيات متمركزة بين يدي رئيس الحكومة، إلى نظام رئاسي، بصلاحيات مطلقة، و”شطب” كلي لمنصب رئيس الوزراء ... ظاهرياً، ستنتقل تركيا إلى نظام رئاسي على الطريقة الأمريكية، مع “مسحة” استبداد آسيوي، تنتمي للحوض العربي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
سوريا في المقابل، أقله وفقاً لمسودة الدستور الجديد الذي قامت موسكو بتوزيعه على وفود المعارضة والفصائل السورية، السياسية والمسلحة، ستتجه من نظام رئاسي، مطلق الصلاحيات، سياسياً وأمنياً وعسكرياً وتشريعياً ... إلى نظام رئاسي/برلماني مختلط، حيث سيتقاسم الرئيس ومعه الحكومة المنبثقة عن مجلس الشعب، السلطات والصلاحيات، وحيث تقترح المسوّدة صلاحيات أوسع للمجلس المنتخب، بما فيها صلاحية عزل الرئيس، فضلاً عن نظام “لا مركزي”، هو في منزلة أقرب للفيدرالية منه إلى اللامركزية الإدارية.
وفيما تقطع تركيا شوطاً تلو الاخر – عملياً ودستورياً - على طريق النظام الرئاسي مطلق الصلاحيات، فإن المشهد السوري ما زال ينطوي على كثيرٍ من الغموض و”انعدام اليقين” ... دمشق، التي لا تكف عن نفي وجود أي خلافات مع موسكو، بل وسبق لها أن نفت بشدّة، وجود “مسودة دستور” أعدها الكرملين، تعترف اليوم بوجود هذه “المسوّدة”، وتجد نفسها مضطرة للاعتراف بوجود خلافات “جوهرية” مع مسودة الدستور المذكور، سيما لجهة صلاحيات الرئيس، و”الهوية القومية – العربية” للجمهورية، والنظام الفيدرالي – اللامركزي، و”الحقوق الثقافية – الذاتية” للأكراد، وصلاحيات جمعيات المناطق ومجلس الشعب، وغير ذلك كثير من الفصول والبنود التي اشتملت عليها المسوّدة المكونة من 85 مادة والموزعة على 24 صفحة.
لا نعرف بعد، ما الذي ستستقر عليه مواقف الأطراف المختلفة من “المسوّدة” المذكورة، والتي من الواضح أن موسكو وضعتها استناداً “لاجتهاد” خاص، حول ما هو ممكن وما هو مستحيل أن تقبل به بقية الأطراف وتأخذ به، بيد أنها بلا شك، اجتهدت في “تقدير الموقف” الذي سيمكنها من اجتياز حقل الألغام الذي ينتظرها، أو هكذا تعتقد على أقل تقدير ... ومن الواضح تماماً أن مهمة تمرير المسوّدة وبناء توافق سوري – إقليمي – دولي، لن تكون مهمة يسيرة.
سيكون للفصائل المسلحة والسياسية المعارضة، رأيها في المسودة، وقد تلتقي في بعض المواقع مع تحفظات النظام عليها (الهوية العربية لسوريا)، صلاحيات جمعيات المناطق (الأكراد خاصة) وحقوقهم الثقافية القومية ... لكن المؤكد أنها ستختلف مع النظام في محاولته إعادة انتاج نظام رئاسي مطلق الصلاحيات، وستسعى في توزيع السلطة في سوريا ما بعد الحرب، أفقياً وعامودياً.
الدستور الجديد (المسوّدة) أسقط كافة البنود المتكررة في دساتير سوريا السابقة، التي تتحدث عن “الشريعة” كمصدر للتشريع، أو تضع قيداً دينياً عند اختيار رئيس الجمهورية، وبصورة تؤسس لنظام علماني مستقبلي لسوريا، وهذا ما لم تستطع موسكو تمريره في اجتماعات “أستانا”، فهل ستقبل فصائل المعارضة المختلفة، ذات المرجعية الإسلامية في غالبيتها العظمى، بدستور “علماني” لسوريا، وهي التي رفضته في من قبل، وأجبرت روسيا على شطب كل ما يدل أو يؤشر على علمانية النظام العتيد في “الأستانا”؟
ثم، ما الذي ستكون عليه مواقف الأطراف الإقليمية الفاعلة في الملف السوري؟ ... هل ستقبل تركيا بهوية كردية متنامية وحاضرة في “دستور سوريا الجديد”؟ ... هل ستقبل إيران بنظام، ينتقص كثيراً من صلاحيات حليفها الموثوق في دمشق، والذي استثمرت من أجل بقائه واستمراره، مليارات الدولارات وألوف الأرواح؟ ... أين العرب من كل هذا السجال المحتدم حول راهن سوريا ومستقبلها؟
ستنتهي الأزمة السورية عاجلاً أم آجلاً، بعد أن بلغ مختلف الأفرقاء حالة من الإعياء والانهاك، وأيقنت أن “لا حل عسكرياً للأزمة السورية” ... لكن الأمر المؤكد أن سوريا التي عرفناها لن تظل كذلك، وأنه سيكون من الصعب علينا التعرف على سوريا الجديدة ... و”على هامش” الأزمة السورية وتخومها، ستكون تركيا بدورها، قد تغيرت، وغالباً نحو الأسوأ.
أرسل تعليقك