بقلم : عريب الرنتاوي
أياً كانت التحولات التي طرأت على فكر صادق جلال العظم وانحيازاته السياسية والإيديولوجية التي رافقت الأزمة السورية، فإنني – على المستوى الشخصي – احتفظ للراحل الكبير، بمكانة خاصة في عقلي وقلبي، فقد كان من بين أوائل المفكرين الذين تأثرت بهم، وأنا أبدأ – مبكراً –أولى خطوات مشوار حياتي السياسية والفكرية، مع نهاية المرحلة الإعدادية وبداية المرحلة الثانوية في الأعوام 1969 – 1970.
في مكتبة أمانة العاصمة، وعلى مقربة من المدرج الروماني في عمان، عثرت على كتاب للمرحوم كان صدر حديثاً عن دار الطليعة البيروتية، بعنوان «نقد الفكر الديني»، قرأته مرات عديدة لأحيط به وبما تضمنه من نقد لاذع وتحليل عميق للعقل «الخرافي» العربي.
لاحقاً، عاودت قراءة الكتاب، فلم استقبله بالدهشة ذاتها، وربما كانت لي تحفظاتي على مواقع عديدة منه، لكن الكتاب لم يفقد قيمته وأثره «المفتاحي» في تكوين عقليتي النقدية التي نشأت لها، والتي تسببت في خلق الكثير من المتاعب بالنسبة لي، في كل مكان عملت فيه، مهنياً وسياسياً… ومنذ تلك الفترة المبكرة، لم تعد علاقتي بـ «المؤسسة» و»الوعي السائدة» بالقصة المسلية، أو السلسلة دائماً.
الكتاب الثاني، الذي سيساهم في احتلال مساحة واسعة من «وعيي المبكر»، كان لصادق جلال العظم أيضاً، صدر في نفس الفترة تقريباً، وعن الدار البيروتية ذاتها، الطليعة، وبعنوان «النقد الذاتي بعد الهزيمة»، تناول فيه المؤلف مظاهر مختلفة لهيمنة «الخرافة والأساطير» على الوعي الجمعي العربي، وفكك بطريقة منهجية منظومة الاستبداد التي قادت إلى الهزيمة، وزرع في عقلي – قيد التشكل – في حينها، بذور وعي مبكر للديمقراطية والحرية والتفكير النقدي المستقل.
بعدها بفترة ليست بعيدة، سيكون لي موعد مع مفكر سوري آخر، هو الياس مرقص، الذي سيعيد بأعماله الموسوعية، تشكيل إدراكي الخاص للماركسية، من خلال سلسلة من أعمال النقد والمراجعة، للماركسية العربية، ومن خلال مقاربته المختلفة للتجربة السوفياتية، ولتجارب الحركتين الشيوعيتين العربية والعالمية … رحل الرجلان عن هذه الدنيا، لكن ما خلفاه من أثر معرفي، والأهم من تأثير على أنماط التفكير، سيظل يرافقني إلى آخر مشوار العمر.
يحلو للبعض أن يأخذ صادق جلال العظم، بالتقسيط، فيتوقف عند كتاباته المصاحبة للأزمة السورية، وانحيازاته السياسية والفكرية التي قد ينسجم بعضها وقد يتعارض بعضها الآخر، مع إرثه الفكري والمعرفي المديد … وهذه مقاربة جائرة على أية حال، بيد أنني من الذين يؤثرون أخذ الرجل بـ»الجملة»، وليس بـ»المفرق»، والاعتراف بفضله وريادته، اللذين كان لهما أثر كبير، في تشكيل وعي وثقافة جيل كامل من المناضلين والمثقفين اليساريين والقوميين العرب، الخارجين للتو، من صدمة النكسة وزلزال الهزيمة.
برحيل العظم، يكون الستار قد أسدل على جيل من المفكرين السوريين الكبار، من أمثال الياس مرقص وياسين الحافظ وجورج طرابيشي، لم يبق منهم على قيد الحياة والعطاء سوى الطيب تيزيني، أمد الله في عمره … جيل سعى في نقد الاستبداد وتفكيك منظومته الاجتماعية والفلسفية، ومحاربة «اللاعقلانية» العربية، ومجادلة تيارات الفكر والسياسة السائدة في تلك الأزمنة.
سيرحل الحافظ ومرقص عن هذه الدنيا، قبل أن تكتوي العقول والقلوب بنيران الفتنة و»حروب الطوائف والمذاهب»، أما طرابيشي، فسيشهد على السنوات الخمس الأولى من عمر هذه الأزمة السورية، فيما سيتعين على تيزيني وميشيل كيلو، أحد رموز ذلك الجيل، أن يتورطا، خصوصاً الأخير، في دهاليز هذه الأزمة وزواربيها، فيخطئون أحياناً ويصيبون في أحيان أخرى.
المصدر :صحيفة الدستور
أرسل تعليقك