بقلم : عريب الرنتاوي
تشي معارك الكر الفر على مختلف جبهات المواجهة الدامية في سوريا، باستنتاج لا يمكن تجاهله أو القفز من فوقه، ألا وهو أن الأطراف الدولية الممسكة بمفاتيح الأزمة السورية، وبالأخص موسكو وواشنطن، قررتا على ما يبدو “ضبط إيقاع الحرب” ومنع أي من طرفيها من تحقيق انتصار عسكري حاسم، يمكن من فرض أجندته الخاصة أولاً، ويساعده على اختراق سقوف ومحددات التوافق الروسي الأمريكي. ونبدأ من واشنطن، التي اعتمدت منذ اندلاع الأزمة، سياسة “احتواء الأزمة وإدارتها”، يشمل ذلك إدارة نزاعها مع النظام وحربها على داعش والإرهاب ... ويمكن رد ذلك إلى جملة من العوامل والأسباب أهمها: (1) أن واشنطن لم تكن على يقين من “صدقية” معارضي الأسد، وقدرتهم على منع سوريا من التحول إلى ملاذ آمن وكبير للإرهاب .... (2) أن واشنطن اعتمدت على حلفاء إقليميين، تنظر إلى بعضهم بوصفهم جزءا من المشكلة وليسوا جزءا من الحل، سيما وأن بعضهم متورط في تغذية الإرهاب فكرياً ومالياً وبعضهم الآخر متورط في الإتجار معه، وتزويده بكل ما يحتاجه من “لوجستيات” بما فيها فتح حدوده لعشرات ألوف “الجهاديين” للوصول إلى سوريا والعراق على حد سواء ... (3) أن هذه الإدارة التي استوطنت البيت الأبيض لثماني سنوات، نجحت في فعل ذلك، استناداً إلى شعار الرئيس: رفض الحرب الجديدة، والانسحاب من حربين قديمتين في العراق وأفغانستان، وكان من الطبيعي والمنطقي، ألا تنجر إلى حرب ثالثة ....(4) أن الشرق الأوسط برمته، ومن ضمنه سوريا، لم يعد ذا قيمة استراتيجية متقدمة على خريطة الأولويات والمصالح الأمريكية في مفتتح القرن الحادي والعشرين، وأن مركز ثقل الاهتمامات الأمريكية قد انتقل إلى “الباسيفيك” وأقاصي أسيا، وليس إلى أطرافها. أدارت واشنطن صراعها مع النظام السوري على قاعدة تهميشه وتهشيمه، لدفعه للانصياع لمتطلبات انتقال آمن ومتدرج وجزئي، وليس بهدف إسقاطه أو تدميره .... وخاضت حربها ضد داعش، من دون استعجال، بانتظار أن يفعل التلويح بخطر التنظيم فعله في تغير معادلات السلطة في كل من العراق وسوريا، وهذا ما يفسر التلكؤ الذي ميّز أداء واشنطن على هذين المسارين معاً. في المقابل، أحجمت روسيا عن تقديم دعم عسكري كثيف، ومن باب أولى تقديم دعم اقتصادي مؤثر، للنظام في دمشق في سنوات الأزمة الأولى، وما كان لسيد الكرملين أن يتخذ قراراً بالانخراط في حرب في سوريا، إلا بعد أن شارف النظام على الانهيار، مهدداً بانهياره، منظومة المصالح الروسية في سوريا وموقع موسكو الإقليمي والدولي بكليته ... ولولا التدخل الروسي في سوريا، لكانت جبهات القتال قد انتقلت إلى الساحل ودمشق، وعمق “سوريا المفيدة”. بيد أن روسيا وهي تفعل ذلك، ضبطت خطواتها على إيقاع حسابات دولية أعمق وأشمل وأبعد، فهي نسقت تدخلها مع الولايات المتحدة، ولم تخرج إسرائيل من دائرة التنسيق وتبادل المعلومات، ورسمت خطوطاً حمراء لحلفاء النظام (لم نعد نسمع عن مقاومة سورية للاحتلال الإسرائيلي على طراز حزب الله)، ووضعت سقوفاً لأدوار اللاعبين الإقليميين، من تركيا إلى السعودية مروراً بإيران، إلى أن أمكن تعديل كفة الميزان، وتثبيت دعائم النظام من جديد، وإعادة بناء توازنات القوى بين الأطراف المشتبكة. وحين رأس موسكو، استقواء النظام في دمشق، بوجودها العسكري الكثيف وآلتها الجوية والصاروخية، الضاربة، واستعاد أحلامه بمد نفوذه حيثما تصل دباباته، وأظهر استعداداً أقل للتجاوب مع بيان فينا وقرار مجلس الأمن 2254 والتفاهم الروسي – الأمريكي، لم تجد بوتين أفضل من فيتالي تشوركين لتوجيه تحذيرات للرئيس الأسد من نيويورك، مصحوبة بسحب أجزاء رئيسة من قواتها المرابطة في قواعدها السورية ... الأمر الذي انعكس بشكل واضح، على أداء النظام وحلفائه العسكري، الذي عاد للانتقال من الهجوم إلى الدفاع. ويفسر التوافق الأمريكي – الروسي على منع أي من الأطراف على تحقيق اختراق حاسم أو نصر مؤزر، حالة الضيق التي يبديها حلفاء الجانبين من سوريين ولاعبين إقليميين ... واشنطن تحولت إلى هدف لسهام النقد العربي والتركي فضلاً عن المعارضة السورية، وموسكو تجابه حالة من “الشكوى” و”التذمر” و”التململ” التي يبديها الحلفاء، سيما بعد أن تحولت “التهدئة” و”وقف الأعمال العدائية” إلى وسيلة لسلب النظام انتصاراته، ووقف اندفاعة قواته، سواء على جبهات الشمال الغربي أو الجبهة الجنوبية قبل ذلك. لا منتصر عسكرياً في هذه الحرب العبثية، والمرجح أن تستمر حالة الانهاك والنزف المتبادلين، إلى أن يستكمل القطبان الدوليان مسارها المشترك، الهادف إخضاع مختلف الأطراف لسقف التفاهمات الثنائية القائمة بينهما، ويرتضيان البحث عن أنصاف حلول وأنصاف انتصارات، ويقرران الجلوس على مائدة مفاوضات لتقاسم السلطة.... من المؤسف حقاً أن إعلام الفريقين المتحاربين، بات يبحث عن “انتصارات وهمية” تقاس ببضعة أمتار مربعة من الأرض يستحصل عليها هنا أو قرية أو خربة” يستعيدها هناك، فيما المعادلة الأكبر للصراع المحتدم في سوريا، ترجح فشل أي من الفريقين في خوض معركة كبرى، أو الانتصار فيها.
أرسل تعليقك