حالة من “السعار” تسود الخطاب السياسي والإعلامي المصاحب للمعارك التي دارت وتدور في حلب وحولها … حتى أنك بالكاد تستطيع العثور على “جملة مفيدة” واحدة، من بين ركام التصريحات والبيانات والمواقف التي تصدر عن مختلف الأطراف … في هذه المناخات المسمومة بالاستقطابات وتصفية الحسابات، يجد الباحث عن الحقيقة، مشكلة حقيقية في معرفة ما يجري.
إذ مقابل الاحتفالية و”الانتصارية” التي تغطي خطاب دمشق وحلفائها، لا تكاد البكائيات الكاذبة تتدفق علينا من كل فجّ عميق … لم أجد معنى لاحتفالات النصر فوق ركام المدينة وأطلالها، لم أر سوى نصر بمذاق الهزيمة، ولم آخذ على محمل الجد، تلك التقييمات التي صدرت عن القيادة السورية، والتي تضع “نصر حلب” في منزلة “نقطة التحول” في النظام العالمي وتوازنات القوى الدولية … إنه الهراء الذي لا أجد من ردٍ عليه، أبلغ من ذاك الذي ورد على لسان بوتين في طوكيو، عندما تساءل عمّا إذا كان بمقدور الجيش السوري و”القوى الرديفة” الاحتفاظ” بسيطرتهم على المدينة بعد استعادتها.
في المقابل، لا يفتح أي من الناطقين باسم المحور الآخر، من سياسيين وإعلامية وقنوات ومحطات، لا يفتح أحدٌ من هؤلاء فمه، إلا ليكذب، فحملات التجييش المذهبي والإنساني والطائفي والإيديولوجي، متعددة المصادر، اجتازت كل الخطوط الحمراء، ولم تعد تأبه بالعقل والمنطق … صور ملفقة وأفلام فيديو مفبركة، ومعلومات كاذبة، في لحظة يمكن أن يصبح عدد المدنيين في حي السكري ألف مدني، وفي لحظة تالية، يرتفع الرقم إلى خمسين ألف، الجيش السوري يقتل المدنيين، ويبقر بطون النساء ويقطع رؤوس الأطفال، ميليشيات مذهبية، تصيح بالثأر وتغرز فؤوسها في صدور النساء “السنيّات” بالطبع … وعندما تعترض على مثل هذه المعطيات، او تجادل بأن عدد قتلى الأزمة السورية، أقل من مليون وفقاً للتقارير الدولية، ينهال عليك محدثيك، بالشتائم والاتهامات… وعندما تقول أن أي من رجالات الصليب الأحمر الدولي المتواجدين هناك، لم يوثق أمراً كهذا، يطلع عليك من يحمل عليك وعلى الصليب الأحمر كذلك … لا مكان لإعمال العقل والتقدير المنطقي، ولا مطرح لمساءلة الناعقين بين الخرائب حول دقة معلوماتهم.
يخرج عليك “مثقف يساري – إنساني” لا فسحة لديه للمساءلة والنقاش، فيقترح القطع والقطيعة مع أصدقائه على صفحات التواصل الاجتماعي، إن هم خالفوه الرأي… وهذا من حقه بالطبع … لكننا لم نر “ثورة غضب” عند الصديق، فيما تقارير اليونيسيف تتحدث عن مقتل طفل يمني كل عشرة دقائق، وأن أكثر من ستين بالمائة من مدنيي اليمن، سقطوا قتلى… يتهمون الأخرون بالمذهبية، وهم غارقين فيها، من الرأس حتى أخمص القدمين … لم نر منهم تعليقاً واحداً، عندما كانت “مدافع جهنهم” تقصف الأحياء المدنية في غرب حلب … هؤلاء منافقون أيضاً، ديمقراطيتهم وإنسانيتهم، تتوقف على تخوم الخطوط المذهبية والطائفية والانحيازات المفهومة وغير المفهومة..
يقابله مثقف آخر، والطريف أنه يساري – إنساني أيضاً، ليس لديه شك على الإطلاق، بأن كافة معارضي النظام، أو المشكك بألوهية النصر الحلبي، هم مأجورون وعملاء للغرب والمخابرات العربية، أو عثمانيون متخفون، وفي أحسن الحالات، هم في منزلة متدنية من الوعي والالتزام بقضايا الطبقة والأمة والأممية … بئساً لهذا المنطق.
عندما تسأل عن خريطة القوى في شرق حلب، لكأنك أتيت أمراً فرياً، مع أن القاصي والداني، يعرف أن جبهة النصرة، هي العمود الفقري للمسلحين في شرق حلب وإدلب أيضا، وأن كثيرين ممن لم يرفعوا راياتها، لا يختلفون عنها كثيراً… تسأل عن “المدنيين” الذي تم إجلاؤهم، وما إذا كانوا من سكان المنطقة، أم هم عائلات “المجاهدين” المستقدمة معهم، فيلوّح إليها بالويل والثبور وعظائم الأمور … تسأل عن صحة الأرقام عن أعداد المدنيين في حلب الشرقية، فتسمع أرقاماً فلكية، سرعان ما تتضاءل عن تبدأ عمليات النزوح، ويصبح بالإمكان معرفة الأرقام الحقيقية، غير “السياسية” وغير “الدعائية”.
لا يكاد فرانسوا هولاند يعرف النوم، قلقاً على المدنيين في شرق حلب، وعندما يخرج هؤلاء من مناطق المعارضة إلى مناطق النظام، ينسى أمرهم بالكامل، لكأنهم ليسوا بشراً أو كفّوا عن أن يكونون كذلك، فما عادوا يستحقون المساعدة… هو يتباكى على عائلات المقاتلين والمسلحين والمجاهدين، ويستدعي مجلس الأمن على عجل، للتفكير في كيفية إيصال المساعدات الإنسانية لهم، هم بشر بلا شك، ويستحقون المساعدة، لكن هل يعقل أن يكون مصير بضعة ألاف من هذه العائلات، أهم بكثير من مصير عشرات ألوف العائلات في مراكز الإيواء في مناطق سيطرة النظام.
طفلة في حلب الشرقية تتحدث الإنجليزية بلكنة أهل وستمينيستر، ولديها عشرات ألوف المتابعين على تويتر، سبحان الله، النبوءات تحدث والعبقريات تتفجر في الأزمات، لكننا لا نعرف متى أصبح لها كل هذا الحضور على الشبكة العنكبوتية، في مناطق، لا تأتيها الكهرباء ولا الماء، لا الدواء ولا الغذاء … أكثر من نصف عمر هذه الطفلة، قضته محاصرة في أحياء حلب القديمة، ومع ذلك يراد لنا أن نصدق.
مقابلها ، ثمة طفلة أخرى، خبأت علم الجمهورية العربية السورية، في حرز حريز، لتخرجه من تحت ثيابها، للاحتفال بيوم النصر العظيم … لتتدفق بعد ذلك، بشعارات الولاء والانتماء، والهتافات الممجدة والمخلدة للقائد الرمز والضرورة.
حتى الأسباب التي حالت دون إتمام صفقة جلاء المسلحين وعائلاتهم من الأحياء المتبقية لهم في حلب الشرقية، تدور حولها منازعات لا نهاية لها، ناطق باسم المعارضة، يتحدث عن اختطاف ميليشيات شيعية سائبة لقافلة الثامنة منهم، وعن مصائر مجهولة تنتظر هؤلاء، فيما الحقيقة التي ستتضح لاحقاً، أن جبهة النصرة، لا تريد إخلاء الجرحى والمصابين من الفوعة وكفريا، وأن محاولات لتهريب أسرى وأسلحة “نوعية” هي التي حالت دون إتمام الصفقة، وهكذا هو الحال في كل صغيرة وكبيرة، تدور في حلب أو حولها.
الجميع متورط في حرب تزييف الوعي والحقائق، في النفاق والدجل، ولكنني من باب الموضوعية المستندة إلى مشاهدات ومتابعات شخصية، وليس كنتيجة لدراسة مدققة، أقول، أن حجم الزيف والتزييف على جبهة خصوم النظام، أعلى بكثير مما عليه لدى مؤيديه … ومن باب الموضوعية، أقول أن خصوم النظام نجحوا في تصوير ما حصل في حلب، بوصفه صفعة جديدة، وهزيمة كبرى، للسنة العرب في المنطقة برمتها، فهذا هو هدف الحملة في المقام الأول والأخير، وإذا كان النظام وحلفاؤه، قد نجحوا في الميدان، فإن خصومهم قد انتصروا في الفضاء.
المصدر : صحيفة الدستور
أرسل تعليقك