بقلم : عريب الرنتاوي
قبل أن تطأ قدماه أرض سانت بطرسبورغ في التاسع من آب/أغسطس الجاري، حرص الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على تسجيل اختراق على جبهة جنوب غرب حلب لفك حصار القوات الحليفة لأنقرة في الأحياء الشرقية للمدينة ... الرسالة التركية لم تَخفَ مراميها على أحد: أردوغان الناجي من محاولة انقلابية فاشلة، ما زال لاعباً رئيساً على الساحة السورية بدلالة “اختراقات” المعارضة على جبهة الكليات والراموسة، وهو من قبل ومن بعد الزعيم الأوحد على الساحة الداخلية التركية، بدلالة التظاهرات المليونية التي نظمها عشيتها قمته “التاريخية” مع “القيصر”.
اليوم، يُقْدم أردوغان على فعل الشيء ذاته، فيستبق زيارة نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى أنقرة، بالإعلان عن بدء هجوم على بلدة جرابلس السورية، تحت عنوان “تطهير” الحدود من إرهاب “داعش” و”الحزب الديمقراطي”، فعيون الرجل ما زالت متسمرة على منبج والتمدد الكردي غربي الفرات ... ما قاله وزراء حكومة أنقرة مداورة، أكد عليه رئيس البلاد صراحة: سنضرب “داعش” والحزب “الديمقراطي الكردستاني”، بوصفهما فصيلين إرهابيين، وسنطهر الحدود الجنوبية لتركيا منهما ... لم يبق للضيف الأمريكي ما يقوله، الدبابات عبرت الحدود، والطائرات بدأت العمليات الجوية، والمشاة دخلوا مشارف المدينة واجزاءها الشمالية.
في كلتا الحالتين، يسعى أردوغان في تظهير الدور التركي في سوريا الذي تراجع كثيراً منذ الثلاثين من أيلول/ سبتمبر 2016، عندما ألقت روسيا بثقل آلتها الحربية خلف النظام وحلفائه ... اليوم، وبعد أن بدأت شرارات الحرب في سوريا وعليها، بإشعال الحرائق في الداخل التركي، تقلص هامش المناورة أمام “السلطان”، ولم يبق أمامه سوى أن يلقي بكل ثقله السياسي والأمني والعسكري في المعركة لحفظ أمن تركيا واستقرارها، بل وحفظ وحدتها وسلامة أراضيها... اليوم، يعود أردوغان ليضع مصالح تركيا وهواجسها، على مائدة التفاهمات الروسية – الأمريكية، واللقاء المنتظر يوم غدٍ بين لافروف وكيري.
وأحسب أن أنقرة ما كانت لتعطي شارة الانطلاق لدباباتها لاختراق الحدود الشمالية لسوريا من دون استحصالها على أكثر من ضوء من غير عاصمة ... لا شك أنها تشاورت مع موسكو وطهران كما ألمح إلى ذلك وزير الداخلية التركي أفكان آلا ... وربما يكون الموضوع قد بحث مع دمشق ذاتها، التي قيل إن مستشاراً لرئيس المخابرات التركية حقان فيدان كان في زيارتها مؤخراً، وأن الجنرال المتقاعد إسماعيل حقي، عراب اتفاق أضنا بين أنقرة ودمشق، يجول بين العواصم رافعاً لواء المصالحة وتفعيل الاتفاق المذكور... كما لا يُستبعد أن تكون العملية قد حظيت بمباركة رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البارزاني، الذي كان في زيارة لأنقرة أمس الأول، وهو الذي لا يخفي خصومته لغالبية أكراد سوريا المتأثرين بزعامة “صديقه اللدود” عبد الله أوجلان.
دمشق لم يكن بمقدورها أن تمنح ضوءً أخضر لاختراق الجيش التركي لحدودها، ولم يكن متوقعاً منها أن تمتنع عن إدانة الخرق التركي لحدودها الشمالية، لكن ذلك لا يمنع أنها كانت في صورة القرار التركي، سواء عبر حلفائها أو حتى بصورة مباشرة من الموفدين والوسطاء الأتراك ... وفي كل الأحوال، فإن الخطوة التركية، ربما تكون جاءت في توقيت مواتٍ جداً للقيادة السورية، التي تكاد تفقد مدينة الحسكة بكاملها لصالح “الأسياش” و”وحدات الحماية الكردية” ... دمشق التي لعبت بالورقة الكردية ضد انقرة لأكثر من أربع سنوات، تعود اليوم للعب بالورقة التركية ضد الانفصاليين الأكراد، الذين ذهبوا بعيداً في رهاناتهم على واشنطن، وربما يكونوا قد تسرعوا في الكشف عن نواياهم الانفصالية، فحق عليهم القول الذائع: “من استعجل الشيء قبل أوانه، عوقب بحرمانه”.
واشنطن في المقابل، تفضل القيام بدور “الحاوي” القادر على إخراج الأفاعي من سلتها وترقيصها على عدة نغمات مزماره ... دفعت بأحلام الأكراد عالياً حتى صعودا إلى أعلى قمم الشجر، وها هي تهبط بهم إلى الحضيض، مع اختراق الجيش التركي للحدود مع سوريا، وبغطاء جوي أمريكي ... لعبت بالأكراد ضد داعش وأنقرة ودمشق، وها هي تلعب بالورقة التركية ضد داعش والأكراد ... الحلفاء من منظور عاصمة القرار الدولي، ليس لهم سوى “دورٍ أداتي”، أما مصالحهم وأحلامهم وحسابات أمنهم القومي، فلا قيمة لها بذاتها، بل بالقدر الذي تخدم فيه أهداف السياسة الأمريكية وأولوياتها المتبدّلة... إنها مفارقة غريبة عجيبة، كيف يمكن لقاعدة “أنجرليك” أن تُستخدم من قبل الطائرات الحربية الأمريكية، تارة لتوفير غطاء جوي لأكراد سوريا، وأخرى لتغطية هجوم الجيش التركي البري ضدهم؟!
يبدو في حمأة القتال والمعارك المحتدمة على جبهات الشمال السوري على نحو خاص، أن الخاسر الأكبر سيكون “داعش” الذي يطوي آخر صفحاته في سوريا والعراق على حد سواء، وإلى جانبه في قائمة الخاسرين تأتي الحركة الاستقلالية لأكراد سوريا.
أرسل تعليقك