بقلم : عريب الرنتاوي
يشي التزامن بين توقيع تركيا اتفاق “تطبيع” العلاقات مع إسرائيل من جهة، ورسالة الاعتذار الصريح التي وجهها الرئيس التركي لنظيره الروسي عن إسقاط طائرة “سو 24” من جهة ثانية، بأن أنقرة قد تكون بصدد احداث استدارة في سياساتها ومواقفها حيال عدد من أزمات المنطقة ... فالصدفة هنا، تتكشف عن ضرورة، ومن يريد العودة إلى “صفر مشاكل” وفقاً لأحمد داود أوغلو، أو إلى “أعداء أقل وأصدقاء أكثر” وفقاً لخلفه بن علي يلدريم، عليه أن يقرع أبواباً كثيرة، ومن بينها البوابتين الروسية والإسرائيلية.
هاتان الخطوتان كانتا منتظرتان ومرجحتان، من منظور التحليل الواقعي لحسابات السياسة والمصالح التركية، وإن كانتا مستبعدتان، من منظور “التركيبة الشخصية” لرجل تركيا القوي رجب طيب أردوغان، الذي تميّز بعناده الكبير، ونظرته الخاصة لذاته وشخصه ودوره ورسالته ... وربما لهذا السبب بالذات، انقسم المراقبون إلى فريقين، الأول، رجّح أن تنحاز تركيا لمصالحها فتقدم على ما أقدمت عليه من خطوات مؤخراً، والثاني، غلّب “التأثير” الشخصي لأردوغان على حسابات السياسة والمصالح، فاستبعد أن تنحني أنقرة أمام العاصمة، وأن يهبط رئيسها على هذا النحو “المهرول” من على قمة الشجرة التي صعد إليها.
حسابات السلطة والبقاء فيها، ربما تكون دفعت “السلطان” إلى اجتراع كأس السم، وابتلاع الإهانة ... فمن استمع إلى شروحات نتنياهو والصحافة الإسرائيلية وأركان الحكومة، لمضامين الاتفاق التركي – الإسرائيلي، يدرك أولاً، أن الصفقة بمجملها جاءت لصالح إسرائيل، وأبقت “القليل من الحمص” لحكومة العدالة والتنمية... ويلمس ثانياً، لمس اليد، أن مصالح تركيا تغلبت على “شعارات أردوغان”.
أما رسالة الاعتذار الخطيّة التي وجهها الزعيم التركي لـ “قيصر روسيا”، وتضمنت عبارة “أنا اعتذر”، فقد كانت مستبعدة تماماً ومفاجئة إلى حد كبير ... خصوصاً لمن شاهد واستمع لخطابات التهديد والوعيد التي تحدث بها أردوغان عن روسيا، ومواقفه القاطعة والقطعية، حيال حق تركيا في الدفاع عن سيادتها وكرامتها ... كل هذا الضجيج الخطابي، تبخر دفعة واحدة، وحلت محله لغة اعتذارية وخطاب تصالحي.
والحقيقة أنها ليست المرة الأولى التي يضطر فيها السلطان، وتحت ضغوط السلطة والرغبة في البقاء على رأس هرمها، لابتلاع مواقف والتراجع عن تعهدات، أو حتى إشعال حروب (كما في الحرب الدائرة في جنوب شرق الأناضول)، وتجربة الرجل مع الأزمة السورية، توفر أرشيفاً كاملاً للإخفاقات والتراجعات و”الخطوط الحمراء” التي سرعان ما بددتها الريح .... ومن يراجع تجربة القادة السلطويين و”زعماء الضرورة” يكتشف أنهم سرعان ما يقدمون أفدح التنازلات نظير بقائهم على كرسيّ الحكم، ولنا العبرة في ذلك من عديد التجارب التي لا مجال للخوض فيها في هذه العجالة.
لقدر جرت خلال الأشهر القليلة التي أعقبت تسلم يلدريم مقاليد رئاسة الحكومة، تكهنات عديدة مفادها أن تحولاً كبيراً قد يطرأ على السياسة الخارجية التركية، وأن التغيير الوزاري في تركيا، بصرف النظر عن أسبابه وموجباته، قد يكون مدخلاً لذلك، وتغذّت هذه التكهنات بالعديد من التصريحات الصادرة عن رئيس الوزراء الجديد، وبعض المؤشرات ذات الدلالة، عن رئيسه وزعيم حزبه، رجب طيب أردوغان ... لكن تقلبات السياسة التركية، المرتبطة إلى حد كبير، بتقلبات المزاج الحاد و”الشخصي” للرئيس، ألقت بكثير من الظلال والشكوك، حول جدية و”راهنية” مثل هذه التوقعات.
إلى ان تأكد بالملموس أيضاً، أن الضائقة التي تعيشها تركيا، ومناخات العزلة الإقليمية والدولية التي تلفها من جهاتها الأربع، وفشل رهاناتها السورية وتلك التي صاحبت ثورات “الربيع العربي” وانتعشت بفعله، ستكون أقوى من المزاج الشخصي الحاد للزعيم، وستملي على أنقرة إحداث الاستدارة في مواقفها، وستجبر “السلطان” على قبول الإهانات المتعاقبة.
ولعله من المبكر التكهن بالكيفية التي سينعكس بها “الاعتذار” من روسيا و”التطبيع” مع إسرائيل، على مواقف تركيا وسياساتها حيال أزمات المنطقة، وبالأخص الأزمة السورية، سيما إن أخذنا بنظر الاعتبار، أنه في الوقت الذي سعت فيه واشنطن لطي صفحة القطيعة بين أنقرة وتل أبيب لأسباب تتصل بصميم الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، فإن طهران وباريس (ساركوزي)، هما من سعتا لإقناع تركيا بضرورة تجنب المزيد من التصعيد مع الكرملين، والسعي لفتح صفحة جديدة مع سيده، بدءاً بالاعتذار منه... ولنا أن نتخيل كيف يمكن لهذا “الخليط غير المتجانس” من الوسطاء و”سعاة الخير” بأجنداتهم ومصالحهم المتضاربة حد التناقض والاصطراع، أن ينتهي بتركيا وأن يؤثر على مواقفها وسياساتها الخارجية.
أرسل تعليقك