أخطر ما يهدد العقل السياسى العربى هو أن يصبح فى حالة استغراق كامل فى شأنه المحلى ويقوم بتحليل كل ما يدور حوله إقليمياً ودولياً من هذا المنظور المحلى جداً.
الكارثة الكبرى أن تفكر محلياً وتحلل وتفسر ذلك إقليمياً وعالمياً.
أزمة العرب أنهم يؤمنون إيماناً جازماً أنهم على سلم أولويات البيت الأبيض والكرملين والإليزيه و10 داونينج ستريت.
نعم العالم العربى يهم العالم، ولكن من قبيل النفط والغاز والممرات الاستراتيجية والثروات وسوق تصريف بعض المنتجات، لكنه ليس مكاناً للعلم أو تصدير التكنولوجيا أو القوة الناعمة أو يسهم بأى قدر ولو ضئيل فى تشكيل قيم العالم أو تطوير حياته.
أهمية العالم العربى الآن أنه ساحة قتال كبرى تتسع من سوريا للعراق ومن اليمن إلى ليبيا ومن غزة إلى سيناء.
أهمية العالم العربى الآن أنه «فاترينة» أو قاعة عرض لأحدث أنواع الأسلحة التى يتم استخدامها بشكل حىّ من خلال ضحايا عرب ومسلمين.
أبلغ نموذج لحالات التفكير المحلى الموغل فى الانكفاء على الذات هى حالة المجتمع السياسى اللبنانى الذى ما زال يعيش نظام قيم الحرب الأهلية اللبنانية.
ما زال لوردات الحرب اللبنانية، وعائلات الإقطاع السياسى التى كانت تستخدم تجارة السلاح، وإتاوات الحواجز، والمال السياسى، وتجارة العملة المزيفة، وتهريب البضائع، وزراعة المخدرات، هى ذاتها التى تتحكم فى الحياة الحزبية وتتقاسم أركان السلطة والبرلمان.
هذا العقل «المافيوى السياسى» مستغرق للغاية داخل نفسه ويؤمن وهماً بأن هناك تقريراً يومياً عن لبنان يقدم على مائدة إفطار كل من ترامب وبوتين وماكرون وبنج وميركل وتيريزا ماى.
ومن يقرأ بعض التحليلات السياسية أمس واليوم فى لبنان سوف يجد عناوين تقول:
«ريجان وجورباتشوف يبحثان لبنان فى فلاديفستوك».
«شيراك وتاتشر يؤكدان على أهمية الاستقرار فى لبنان».
«بوتين وترامب يتفاهمان على تشكيل الحكومة اللبنانية فى هلسنكى».
هذا الخلل فى بناء العقل السياسى للنخبة السياسية العربية بوجه عام والنخبة السياسية اللبنانية بوجه خاص تراه يؤدى حتماً وبالضرورة إلى الوصول إلى خلاصات ونتائج خاطئة فى الفهم والتحليل السياسى.
هناك قانون منطقى وفلسفى صحيح مائة فى المائة -حتى الآن- يقول «إن المقدمات الخاطئة تؤدى بالضرورة إلى نتائج خاطئة».
من هنا نجد أن العقل السياسى اللبنانى محاصر فى قضايا: مولدات الكهرباء وأزمة النفايات وكسارات المحاجر، ومحارق النفايات، وتوزيع بيزنس النفط والغاز، وتشريع زراعة الحشيش، دون إيجاد حلول، فى ذات الوقت الذى يقوم فيه بربط هذه القضايا دائماً بإرادات قوى إقليمية ومصالح دولية.
باختصار انكفاء فى الداخل دون حل، والإصرار - كذباً - على أن الحل مرتبط عضوياً بالمنطقة والعالم.
هذا العقل الذى يعيش حالة من الواقع الافتراضى فشل فى القضاء على القمامة فى الشوارع أو يعانى من جنون الصراع على حصص تشكيل الحكومة.
قمامة فى الشوارع، قمامة فى التحليل السياسى، تؤديان بالضرورة إلى قمامة فى النتائج والحقائق.
أرسل تعليقك