بقلم ـ مصطفي الفقي
«مصر» خزانة التاريخ، ومستودع الحضارات، تملك أكبر رصيد من الملكية العقارية عبر تاريخها الطويل، بدءًا من «مصر الفرعونية»، مرورًا بـ«الإسكندرية» اليونانية الرومانية وصولًا إلى «القاهرة» الإسلامية والفاطمية والمملوكية والخديوية ثم «مصر الحديثة»، التى تملك أيضًا فى الخارج رصيدًا كبيرًا من الأبنية والممتلكات، فمن أوقاف «محمد على» فى «اليونان» مرورًا بمنزل «عرابى» فى «سريلانكا»، وصولًا إلى أكاديمية «روما» والمكتب الثقافى المصرى فى «لندن»، وقس على هؤلاء وأولئك عشرات بل مئات المواقع المهمة ذات التأثير الضخم، حيث نشرت حولها الضياء وارتفعت بقيمتها إلى قمم المجد ومدارج الكبرياء، فمصر بحق هى بلد التراث، فالعقارات عندما تتقادم تصبح تراثًا، والتراث من حيث قيمته المادية هو عقار عانق التاريخ واحتضن الجغرافيا، لذلك فإن بلدنا شديد الثراء فى هذا المجال وما أكثر العواصم الدولية المختلفة التى نرتادها لنجد أن لمصر موضعًا فيها أو أثرًا لها أو رمزًا لوجودها، بدءًا من المركز الثقافى المصرى فى «موريتانيا»، مرورًا بالأبنية التى تملكها الدولة المصرية وتشغلها سفاراتها وقنصلياتها ومكاتبها الفنية فى كل مكان وصولًا إلى «التكية المصرية» فى «المملكة العربية السعودية»، والتى جرى هدمها منذ عدة سنوات، كما أن «مصر الأزهر والكنيسة» مرحب بها لدى كل الشعوب الإسلامية والمسيحية، لأن فى ظهورها دليلا على العراقة والأصالة وربط الماضى بالحاضر، والآن دعنى أطرح على القارئ الحقائق الآتية:
أولا: لقد استنت الخارجية المصرية سنة رائعة عندما بدأت فى امتلاك معظم سفاراتنا فى الخارج والقنصليات العامة أيضًا، فضلًا عن دور سكن السفراء وهو أمر أدى إلى تعظيم ثروتنا القومية من الملكية العقارية فى الخارجن وأصبحنا نباهى بعدد القصور التى تملكها مصر فى عواصم العالم ومدنه الكبرى، وقد تضاعف ثمنها بمتوالياتٍ هندسية وليست متواليات عددية فقط، إذ إن قيمة كل شىء قابلة للتراجع إلا قيمة العقار!.
ثانيًا: بذل كثير من السفراء جهدًا صادقًا فى امتلاك مبانٍ عريقة ومقار رائعة بأقل التكاليف التى تنفقها هيئة تمويل المبانى بوزارة الخارجية من خلال الرسوم الرمزية للطوابع التى يجرى بيعها ضمن تكلفة الخدمات القنصلية فى الخارج والداخل، ولى شخصيًا تجربة خاصة عندما كنت سفيرًا فى العاصمة النمساوية (1995- 1999) وتمكنت من أن أترك لبلدى بصمة لا تمحى بثلاث قلاع تاريخية فى الحى التاسع عشر بفيينا، ويتوسطها ميدان استجلبت له «مسلة فرعونية» مقلدة من جرانيت أسوان باقتراح من الدكتور «ممدوح حمزة»، عندما زار المبنى فى مرحلة التجديد، ويرجع الفضل فى ذلك كله إلى شاب مصرى يعتبر مهندسًا عبقريًا بكل المعايير، وأعنى به الدكتور «علاء أبوالعينين»، نمساوى الجنسية مصرى الأصل، الذى كان يحوز تلك المبانى الثلاثة وهى قصور غير قابلة للهدم أو التعلية بقوة القانون النمساوى، فكان خياره من منطلق وطنى أن تشتريها السفارة المصرية بأقل الأسعار الممكنة، وأظن أن قيمتها الحالية تتجاوز مئات الملايين من الجنيهات المصرية، فالمرء حين يسعى يستطيع أن يحقق إنجازًا شريطة ألا يكون مرتعش اليد أو ساقط الهمة.
ثالثًا: إن سفارتنا فى «روما» تحفة تاريخية وسط حدائق رائعة، وقد شهد مبناها أحداثًا مهمة فى التاريخ الأوروبى المعاصر، كما أن سفارتنا فى «لندن» قد اشتراها «عزيز عزت باشا» وأصبحت درة فى قلب أرقى أحياء «لندن» وعلى مقربة منها المكتب الثقافى الرائع، والذى عاش فيه «الملك فاروق» عندما كان وليًا للعهد يجرى إعداده لتولى الملك مع رائديه «أحمد حسنين باشا» والفريق «عزيز المصرى» وما دخلت ذلك المكتب الثقافى الذى يضم البعثة التعليمية، التى حصلت على الدكتوراه تحت إشرافها إلا واعترانى شعور بالزهو لأن بلادى تملك تلك الثروة الفريدة فى دولة الاحتلال!.
إننى ألفت نظر المصريين إلى تراكم الثروة العقارية لهم فى الداخل والخارج، وما أكثر ما فرطنا فيه من قصور داخل الوطن بالإهمال تارة، وبتجاهل القيمة الفعلية تارة أخرى حتى جرى تسكين كثير من المؤسسات فى قصور تاريخية لا يدرك قيمتها العاملون فيها!، كما أن حيازة «مصر» تلك الممتلكات المترامية فى أنحاء المعمورة تشير إلى قيمة هذا الوطن فأنا ممن يؤمنون بأن المظهر جزء من الجوهر، وأن الشكل انعكاس للمضمون، و«مصر» العريقة لا تقتنى من العقارات إلا ما يرتقى إلى قيمتها ويستحق أن يكون تعبيرًا عن ثقافتها.
المصدر : جريدة المصري اليوم
أرسل تعليقك