بقلم/مصطفي الفقي
عندما نفقد عزيزاً نذرف دمعة، وعندما يرحل قريب تنتابنا لوعة، ولكن حين يرحل شاعر تنطفئ شمعة!، لقد عرفته لسنوات طويلة، ولكننى اقتربت منه أكثر فى الأعوام الأخيرة، ويرجع الفضل فى ذلك إلى صحبتنا المشتركة فى الصالون الثقافى الكبير للصيدلى المثقف د.«أحمد العزبى» - الذى يضم كل أطياف المجتمع المصرى - وكنا نختتم جلسات الصالون ببعض أشعار «سيد حجاب» يقولها بطريقته الخاصة وأسلوبه الشيق وإحساسه العميق، ولقد داهمته وعكة صحية خبيثة لم تمهله إلا شهوراً قليلة فى صراع شرس مع المرض اللعين رحل بعدها ليخفت صوت الشاعر، ولكن تبقى أشعاره شاهداً على رؤيته الواسعة وفهمه العميق لروح هذا الشعب الذى خرج منه ذلك الإنسان الوطنى، الذى صاغ مقدمة دستور البلاد الحالى وأسهم فى أحداث ما بعد ثورة 25 يناير 2011 بشعور وطنى صادق وموهبة شعرية متدفقة، وهو من عائلة طيبة تنتمى إلى شرق الدلتا، وله شقيق معمارى مرموق وآخر شاعر أصابه فيروس الشعر فى عدوى عائلية تتقمص من يرحب بها!. كما أن قرينته سيدة سورية فاضلة وكأنما امتد حسه الوطنى المصرى ليمتزج بشعوره القومى العربى، وعندما نعى الناعى «سيد حجاب»، الذى كان يجسد نبض «مصر» محبوبته ومعشوقته ومصدر إلهامه، أدركت أننا قد فقدنا صوتاً شامخاً يعتنق فلسفة هادئة فى فهم الأمور وتشخيصاً أميناً للأحداث والمواقف ويملك من الرصانة والحصافة ما يجعله بحق نسيج وحدة بين شعراء عصره، وإن كان قد اختار العامية لكى يكون أقرب إلى وجدان رجل الشارع المصرى، بل العربى أيضاً، حيث تعطيه اللهجة المصرية اتساعاً ومرونة قد لا يكونان متاحين فى اللغة الفصحى وكلماتها التى تخضع لقواعد مقيدة فى الشعر خصوصاً، إننى أفتقد صديقاً عزيزاً جمعتنا به صحبة الليالى القاهرية، ولكننى مؤمن بأن الوطن المصرى المعطاء والأرض الطيبة الولادة سوف تقذف من باطنها بشعراء جدد يعطون الكلمة حيويتها ويدفعون الروح الوطنية فى الاتجاه الأصوب، وسوف نجد من بينهم من يتميز بأشعار لمقدمات «المسلسلات» كما كان يفعل الراحل العزيز، ونجد من يستلهم الروح المصرية بتراكم خبراتها ونقاء جوهرها كما كان يفعل «سيد حجاب»، ولقد سمعت الكثيرين يتحدثون عن تساقط الرموز من ساحة الفكر والثقافة بمنطق الحياة التى تدفع بين حين وآخر بأغلى ما لديها نحو عالم الأبدية، فينسحب البشر فى صمت، وقد تغلق ملفاتهم بالرحيل، إلا من يتركون أثراً لا يغيب.. أفكاراً مضيئة، أو أشعاراً ساطعة، أو كلمات مأثورة، تحفظ أسماء أصحابها نجوماً يرصعون سماء الوطن، لقد أثار رحيل «سيد حجاب» فى وجدانى عدداً من المعانى، لعلى ألخصها فى النقاط الثلاث التالية:
أولاً: إننى أطالب بضرورة توثيق مرحلة ما بعد 25 يناير 2011 حتى نضع أيدينا على حقائق غائبة وصفحات مطوية لتلك السنوات الهامة فى حياة هذا الشعب الذى لم يتوقف عطاؤه لعصور التاريخ وأحقاب الزمن، فكان دائماً أباً شرعياً للتصرف الحضارى مهما تكاثفت السحب وادلهمت الأمور، وسوف نجد اسم الشاعر الراحل ودوره الوطنى خصوصاً فى مساجلات الأعمال التحضيرية لدستور البلاد ودوره فيها، وهى مداولات ومناقشات من حق أجيالنا القادمة أن تعرف تفاصيلها كما فعلنا من قبل، فنحن - على سبيل المثال - لانزال نتذكر للمصرى الراحل «عزيز ميرهم» رفضه لتحديد حصة للأقباط تمثلهم فى برلمان البلاد عند إعداد دستور 1923، ولا بد أن هناك وقفات مماثلة لمصريين شرفاء وقت إعداد الدستور الأخير.
ثانياً: إننى أتمنى على المجلس الأعلى للثقافة وعلى الشعراء فيه وأساتذة الأدب الشعبى أن يقيموا أمسية حاشدة تحت اسم «سيد حجاب» نتلو فيها أشعاره ونردد أذكاره وندعو شباب شعراء العامية - خصوصاً من المحافظات خارج القاهرة - لحضورها، تأكيداً لتواصل الأجيال، وتخليداً لذكرى الراحلين.
ثالثاً: إن شعراء العامية العظام القادمين من ربوع الدلتا أو نجوع الصعيد هم مصدر إلهام كبير للتراث الثقافى والفلكلور الشعبى، لأنهم يسجلون أسماءهم فى «دفتر أحوال مصر» ويمثلون علامات فارقة فى مسيرة شعب عجوز ولكنه حين شاب أودعه الدهر الشباب!.
لقد انضم إلى سلسلة الراحلين من شعراء العامية الغائبين اسم جديد فبعد «بيرم التونسى» و«صلاح جاهين» و«فؤاد حداد» و«عبد الرحمن الأبنودى» ودعنا منذ أيام «سيد حجاب» الذى لن ننساه مهما طال الغياب!.
أرسل تعليقك